الحب الممدوح والحب المذموم
يلذ الحديث عن الحب ، فيقبل الناس بشغف على كل ما فيه ذكر للحب ، سواء كان مكتوباً أم منطوقاً 0
وعلم البعض هذه الحقيقة فاستغلها في جذب الناس إليه ، فمن نظم شعراً جعله في الحب ، ومن كتب رواية أدار أحداثها حول الحب ، ومن أراد الغناء اختار منه ما كان عن الحب ، فلا تكاد تجد فناً من الفنون إلا وكان للحب منه أكبر نصيب 0
والكتابة عن الحب أو الحديث حوله ليست أمراً مقصوراً على فئة خاصة من الناس ، وإنما شئ مشاع بين الجميع ، لم يسلم منها أحد ، حتى من يعددون من الرزينين أمثال بعض الفقهاء الذين يفترض فيهم البعد عن الحديث في شؤون الحب ، لم يسلموا من ذلك ، فتحدثوا عن الحب ، وأسرفوا في الحديث ، وإن حاولوا إلباس حديثهم ثوب النصح والنقد ، إلا أنه يظل حديثاً لذيذاً عن الحب ، ولعل أشهر من كتب من الفقهاء الأندلسي ابن حزم في كتابه " طوق الحمامة " وابن قيم الجوزية في كتابه " روضة المحبين " وابن الجوزي في كتابه " ذم الهوى " ناهيك عماً يوجد متفرقاً في أماكن مختلفة من أشعار غزلية لبعض الفقهاء ، وقد جمع بعضاً منها الدكتور غازي القصيبي في كتابه " غزل الفقهاء " ، وهذا شئ يؤكد سلطة الحب في حياة الناس ومدى استرقاقه لهم .
ومن أجمل ما قرأت عن تعريف الحب هو ما كتبه العقاد قائلاً : " الحب تنويم مغناطيسي تقوم الطبيعة فيه بدور المنوم يسلب الإرادة ويضاعف الحس ويريك ما تراه أقوى وأجمل وألف مرة مما يراه سائر الناس ، ويذهلك عن سائر الأشياء التي لا تراها وهي في متناول النظر من كل إنسان "0
ولا أخال العقاد وهو يصف الحب بأنه يسلب الإرادة ويضاعف الحس ويصيب صاحبه بالذهول عن سائر الأشياء ، وهي من الصفات التي لا أظن عاقلاً يسعى إلى اقتنائها ، فهل هذا يعنى أن الحب شيء مذموم ؟ ما يراه ابن الجوزي شيئاَ آخر ، فهو يقول : " والعشق يكون إلا من لطافة الطبع لا يقع عند جامد الطبع حبيسه ، ومن لم يجد منه شيئاً فذلك من غلظ طبعه "0
ويل للناس ماذا يصنعون ؟ إن أحبوا سلبت منهم الإرادة ، وعمي منهم الإدراك ، وإن هم لم يحبوا وصفوا بغلظة الطبع وجمود الحس ؟ ليس هذا فحسب بل إن من لم يحب يفقد مزايا هامة في صقل الشخصية ، فالحب كما يقول الخبيرون به فوائد تربوية ، وفوائده ينص عليها الفضل بن احمد بن أبي طاهر حيث يقول عنه أنه : " يشجع قلب الجبان ، ويسخي قلب البخيل ، ويصفي ذهن الغبي ، ويطلب بالشعر لسان المفحم "0
لكن ابن القيم الجوزية يرى شيئاً ، فهو يقول عن الحب : " إن الهوى رقٍ في القلب ، وغلٍ في العنف وقيد في الرِجِل ، ومتابعة أسير لكل سئ الملكة ، فمن خلفه عتق من رقه وصار حراً ، وخلع الغل من عنقه ، والقيد من رِجْلِهِ وصار بمنزلة رجل سالم لرجل بعد أن كان رجلاً فيه شركاء مشاكسون " 0
وتصف إعرابية الحال البائسة التي يعيشها العاشِقُ ، فتصيب من يسمع قولها بالرعب من أن يحل به شيء من ذلك تقول : " مسكين العاشق ، وكل شيء عدوه ، هبوب الرياح يقلقه ، ولمعان البرق يؤرقه ، ورسوم الديار تحرقه ، والعذل يؤلمه ، والتذكر يسقمه ، والبعد ينحله ، والقرب يهيجه ، والليل يضاعف بلاه ، والرقاد يهرب منه " 0 فالويل لمن أحب ، والويل لمن لم يحب ؟! .